كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني- من الوجهين الأولين- أن يكون جند: مبتدأ، وما: مزيدة و: {هُنَالِكَ} نعت و: {مَهْزُومٌ} خبره. وفيه بعد، لتفلّته عن الكلام الذي قبله. انتهى.
فائدة:
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه. فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم، وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. قال فخشي أبو جهل- لعنه الله- إن جلس إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس. ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسًا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي: ابن أخي! ما بال قومك يشكونك! يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول، قال، وأكثروا عليه من القول. وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا عم! أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية». ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم، وأبيك عشرًا. فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله». فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ونزلت الآية. رواه ابن جرير، والإمام أحمد، والنسائي، والترمذي وحسنه.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل قريش: {قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ} وهم قوم هود: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} أي: الملك الثابت. وأصله البيت المطنّب، أي: المربوطة أطنابه- أي: حباله- بأوتاده، استعير للملك استعارة تصريحية، وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه، أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت، أقيم عموده، وثبتت أوتاده. على طريق الاستعارة المكنية، وأثبت له ما هو من خواصه تخييلًا، وهو قوله: {ذُو الْأَوْتَادِ} فإنه لازم له، أو هو كناية، حيث أطلق اللازم، وأريد الملزوم، وهو الملك الثابت، وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية:
وَلَقَدْ غَنُوْا فِيْهَاْ بِأَنْعَمِ عِيْشَةٍ ** فِيْ ظِلِّ مُلْكٍ ثَاْبِتِ الْأَوْتَاْدِ

أو المعنى: ذو الجموع الكثيرة، سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضًا، كالوتد يشد البناء. فالاستعارة تصريحية في الأوتاد، أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند، أو هو على حقيقته، والمراد المباني العظيمة، والهياكل الثابتة الفخيمة، واللفظ صادق في الكل.
{وَثَمُودُ} وهم قوم صالح: {وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي: الغيضة، وهم قوم شعيب: {أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ} أي: الكفار المتحزبون على رسلهم، الذين جعل الجند المهزوم منهم.
{إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} أي: فوجبت عليهم عقوبتي. قال الشهاب: {إِن} نافية و: {كُلٌّ} محذوف الخبر. والتفريغ من أعم العام؛ أي: ما كل أحد مخبر عنه بشيء، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل؛ لأن الرسل يصدق كل منهم الكل. فتكذيب واحد منه تكذيب للكل، أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع، فيكون كل كذب رسوله، أو الحصر مبالغة، كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه، بمنزلة العدم. فهم غالبون فيه. انتهى.
وقال الزمخشري: وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولًا، والاستثنائية ثانيًا. وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص- أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه.
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير: وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرّر ذلك مصحوبًا بالزيادة المذكورة، ليلي بقوله في المطبوع: ليلييقوله تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام، وهو كما قدمته في قوله: {وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحج: 44]، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [الحج: 44]. انتهى.
{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء} أي: أهل مكة: {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي: أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال: صاح الزمان بهم، إذا أهلكوا. كما قال:
صَاْحَ الزَّمَاْنُ بِآَلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ** خَرُّوْا لِشِدَّتِهَاْ عَلَى الْأَذْقَاْنِ

وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي: من توقف مقدار فواق، وهو ما بين الحلبتين، أو رجوع وترداد؛ فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ف {فواق} إما بحذف مضافين، أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه. وقرئ بالضم، وهما لغتان. وقيل: المفتوح اسم مصدر من: أفاق المريض، إفاقة وفاقة، إذا رجع إلى الصحة، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي: نصيبنًا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] و[العنكبوت: 53- 54]، {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي: الجزاء، وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: فقد وعدت بالنصر، والظفر، والملك، والتأييد، كما أوتي داود عليه السلام، مما سارت به الأمثال؛ ولذا قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا داود ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة؛ أي: الاجتهاد في أداء الأمانة، والتشدد في القيام بالدعوة، ومجانبة إظهار الضعف والوهن: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجّاع إليه تعالى بالإنابة، والخشية، والعبادة، والصيام.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} أي: تبعًا لتسبيحه: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} أي: مجموعة عنده يسبحن معه: {كُلٌّ لَّهُ} أي: لله تعالى: {أَوَّابٌ} أي: مطيع منقاد، يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.
قال ابن كثير: أي: أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عز وجل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه، وتسبح تبعًا له. انتهى. أي: بأن خلق فيها حياةً ونطقًا، أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دوي في الجبال، وحنين من الطيور إليه، وترجيع، وقد عهد من الطير القمري أنه ينتظر سكتة المصوّت، والقارئ بصوت حسن، أو المنشد، فيجيبه، والله أعلم.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي: قويناه بوفرة العَدد والعُدد، ونفوذ السلطة، وإمداده بالتأييد والنصر: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي: النبوة، أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال، والحض على الأداب، ومكارم الأخلاق، وكان زبوره عليه السلام، كله حكمًا غررًا: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي: فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، ورفع الشبه، وإقامة الدلائل، وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، ولا يخالفه أحد من أقاربه، ولا من الأجانب.
ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك، ما قصه بقوله سبحانه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} أي: ولجوه. والمحراب مقدم كل بيت وأشرفه.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى داود فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ} أي: منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن {خَصْمَانِ} أي: شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي: تعدى: {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي: بما يطابق أمر الله: {وَلَا تُشْطِطْ} أي: ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} أي: بحيث لا تميل عن الحق أصلًا.
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أي: أنثى من الضأن: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: فلم ينظر إلى غناه عنها، ولا إلى افتقاري إليها، بل أراد التغلب عليّ: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي: ملكنيها، بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي: نصيبي: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي: غلبني في المكالمة.
{قال} أي داود {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها {إِلَى نِعَاجِهِ} أي مع استغنائه عن هذا الضم {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} أي الإخوان الأصدعاء المتخالطين في شئونهم {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي بغى الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي فإنهم لا يبغون {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي وهم قليل. وما مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير قليل وزيادة ما الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم.
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس، وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل إن التأسي روح كل حزين ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟ وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق علي أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونو فيه الفصول. ومع ذالك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي ابتليناه بتلك الحكومة {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي ما استغفر منه {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} أي لقربا {وَحُسْنَ مَآَبٍ} أي مرجعا حسنا وكرامة في الآخرة.
تنبيهات:
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له. ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار له بذالك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على داود محرابه. وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة. فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته. ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخر ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدي وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن.
قال السيوطي في الإكليل: القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.
أقول: أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فلم يأت من طريق صحيح.، أما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكي عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ. كما فصل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة، وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية، ومن اتبعه، وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في الفصل وعبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قول صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بالخرافات ولدها اليهود. وإنما كان ذاك الخصم قوما من بني آدم، بال شك، متخصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهم على الآخر على نص الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عز وجل، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذب الملائكة. لأن الله تعالى يقول {و هل أتاك نبؤا الخصم} فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها. فأعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان. ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجردة. وتالله! إن كل امرىء منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها. وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين. لا أفعال أهل البر والتقوى. فكيف برسول الله داود عليه السلام الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدًّا، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولامن نبي. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض. والملائكة كما قال الله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه. فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردًا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في تفسيره: وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهَُذَلِكَ} أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام. وذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه صلى الله عليه وسلم، فدفعه بقوله {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ} فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الكحم، لا بامرآة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.
وقال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه. ويزيد، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. الأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل. فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.